Note: This op-ed originally appeared on Medium and was written by Suliman Baldo, Senior Policy Adviser at the Enough Project.
عندما أقدم كبار جنرالات السودان على الإطاحة برئيسهم من السلطة بدا وكأنهم ينصاعون لإرادة الانتفاضة الهائلة التي عمّت البلاد خلال هذا الربيع، ورغم ذلك فإن استراتيجيات الحرس القديم لمواصلة السيطرة على اقتصاد مُختطف لا تزال تُعيق آمال واحتمالات التحول السياسي الإصلاح الاقتصادي التي دفعت بالملايين إلى الخروج للشوارع.
وفي يوم الاثنين الموافق 3 يونيو، أرسل المجلس العسكري الانتقالي، الذي نصّب نفسه في السلطة بديلاً عن البشير، قوات الأمن لفض اعتصام استمر 10 أسابيع لمتظاهرين سلميين يطالبون بتسليم السلطة إلى قادة الاحتجاجات، قوى إعلان الحرية والتغيير. وفي الأسابيع اللاحقة، نكص المجلس العسكري الانتقالي عن وعود قطعها على نفسه في مسودات اتفاقات سابقة لنقل السلطة إلى حكومة انتقالية مدنية في خطوة كان من شأنها تمهيد الطريق لانتخابات ديمقراطية بعد ثلاث سنوات.
وبعد أن خلّص نفسه من الضغوط اليومية التي مثلها الاعتصام، حاول المجلس العسكري الانتقالي بشكل متعجل بناء قاعدة سياسية لإضفاء الشرعية على سيطرته على السلطة. عوّل المجلس العسكري الانتقالي على مشاعر الولاء التقليدي بين المواطنين لقيادات الادارة الأهلية وشيوخ الطرق الصوفية، واعتمد كذلك علي ارهاب المواطنين بنشر قواته العسكرية المخيفة في المعاقل المدنية للاحتجاجات.
وفي سبيل شغل الفضاء المعلوماتي، فرض المجلس العسكري الانتقالي حظراً كاملاً على الإنترنت، في حين استخدم الإعلام الجماهيري المملوك للدولة والآلات الإعلامية الجبارة التي بناها البشير في الأصل لملء الفضاء بمعلومات تُروج لقادته وتنتقص من قادة الحركة الاحتجاجية المدنية. غير أنه في مليونيات 30 يونيو التي عمت أرجاء البلاد استجابة لدعوات قوات إعلان الحرية والتغيير أوقفت مساعي المجلس العسكري الانتقالي للاستيلاء على السلطة منفردا ، وأرغمته على إبرام اتفاق لمشاركة السلطة يحتفظ بموجبه الجيش بتمثيل متساوٍ في مجلس انتقالي سيادي مع إعلان الحرية والتغيير، بينما يحتفظ الأخير بسلطته على تشكيل مجلس وزراء مدني وهيئة تشريعية انتقالية. إلا أن تنفيذ هذا الاتفاق رهين بتقنين بنوده في وثيقة دستورية ملزمة لم يبدأ التفاوض حولها حتي مثول هذا المقال للنشر .
ويبدو أن المجلس العسكري الانتقالي عازم على الاحتفاظ بالسلطة بأي تكلفة، وما يدلل على ذلك هو الأشخاص الذين قُتلوا والذين تجاوز عددهم 140 مدنيًا، فضلاً عن مئات الجرحى على يد قوات الجيش والأمن خلال شهر يونيو وحده. وعلاوة على ذلك، لعب المجلس العسكري الانتقالي على وتر المصالح الاقتصادية والأمنية للقوى الإقليمية من أجل حشد تأييد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر.
عقود من الفساد وتبديد الثروات
سيطر نظام البشير خلال عقد النفط، من 1999 إلى 2011، على الكثير من إيرادات السودان والتي نتجت عن أموال النفط، وقُدرت بمبلغ 75 مليار دولار. وبداية من عام 2011، عندما اختار جنوب السودان استقلاله وانفصاله واستحواذه على حصة 75 بالمائة من النفط، سيطر النظام على احتياطات الذهب الهائلة التي تم اكتشافها مؤخرًا. بيد أنه بدلاً من استخدام هذه الثروة الوطنية لإيصال حصاد التنمية إلى السكان وبناء أسس نمو اقتصادي مستدام عن طريق تحديث البنية التحتية للسودان وقطاعاته الإنتاجية التقليدية مثل الزراعة والنقل، قام نظام البشير بتبديد الإيرادات من هذه الموارد. أنفق النظام بدون تحفظ على نظام موسّع للمحسوبية للحفاظ على قبضته على السلطة، مع إهمال قطاعي النفط والذهب في السودان. إن الكثير مما تبقى من ثروة السودان انتهى به الحال في الجيوب الخاصة لمن هم في دوائر السلطة المقربة، وعائلاتهم وشركائهم التجاريين، وذلك بحسب ما وثقه تقرير مشروع كفاية.
لقد كان قطاع الأمن والدفاع أكبر المستفيدين من هذا التبديد للثروات، إلى جانب حزب المؤتمر الوطني، والذي كان الحزب الحاكم حتى وقت قريب وهو في واقع الأمر واجهة لجماعة الإخوان المسلمين. وخلال حكم البشير، تم تخصيص أكثر من 70 بالمائة من نفقات الحكومة لقطاع الدفاع والأمن، في حين حصلت جميع القطاعات الأخرى من تعليم عام وصحة وزراعة وصناعة وتجارة على أقل من 10 بالمائة من نفقات الميزانية لتيسير أمورها وتحقيق نمو. إن الانهيار الموثق لهذه القطاعات واضح للجميع ولا تخطئه عين. وخلال هذه الفترة، تم تمكين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وجهاز الأمن والاستخبارات الوطني وقوات الشرطة الوطنية من بناء حيازات اقتصادية هائلة، أغلبها مسجل تحت قانون الشركات الخاصة. ونتيجة لذلك، فإن هذه الكيانات المؤسسية العامة المزعومة استفادت من وصولها التفضيلي إلى عقود الواردات والصادرات لكن سُمح لها بالإبقاء على معظم إيراداتها خارج ميزانية الحكومة.
وقد تعمد نظام البشير إخفاء أو تجاهل فلول نظم الإشراف على موارد الدولة، مما جعل الفساد المنهجي القاعدة وليس الاستثناء. وما كان الهدف منه في بداية الأمر تمويل مخطط جماعة الإخوان المسلمين الهائل لتصدير نسختها من الإسلام السياسي إلى العالم انتهى به المطاف إلى تعزيز الفساد المالي على نطاق واسع. وكان معنى هذا أن السودان أصبح أحد البلدان العشر الأكثر فساداً في العالم لسنوات عديدة على التوالي، بحسب العديد من نظم التصنيف العالمية. وكان المستفيدون الوحيدون من النظام، إلى جانب هؤلاء الذين يديرون شركات القطاع الأمني، كبار مسؤولي النظام وأفراد عائلاتهم وزملائهم في التجارة؛ وقد أثروا ثراءً فاحشًا في حين قبعت غالبية الشعب السوداني في الفقر المدقع. لا يزال ملايين الشعب السوداني يعيشون على هبات المساعدات الإنسانية الدولية اليوم أو تحويلات أفراد عائلاتهم الذين تعين عليهم الهجرة بحثًا عن حياة لائقة.
الدعاية الكاذبة
منذ استيلاء المجلس العسكري الانتقالي على السلطة في 11 أبريل وهو يحاول اكتساب الشرعية من خلال تقديم تنازلات رمزية أمام طلبات المحتجين لإنهاء الفساد المستشري – ويمثل ذلك أحد الدوافع الرئيسية للانتفاضة. ورغم ذلك فإن حملة مقاومة الفساد التي لاقت الكثير من المدح كانت محدودة جداً، حيث تحاشت الكثير من الفاسدين المعروفين، بل والأكثر من ذلك أنها حاولت حماية الإمبراطورية الاقتصادية التي حكمها قطاع الأمن دون أي رقابة مدنية.
إن مبلغ الثلاثة مليارات الذي رهنته المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لمساعدة المجلس العسكري الانتقالي في مواجهة الأزمة الاقتصادية سوف تُحسن الأوضاع بشكل مؤقت فقط. يخدع المجلس العسكري الانتقالي نفسه للاعتقاد بأنه يستطيع الاعتماد على هذه الأموال قصيرة الأجل لأجل غير مسمى مع استمرار دور الشركات الامنية في تدمير ما تبقى من القدرات الإنتاجية للسودان.
لقد بدأ المجلس العسكري الانتقالي حملته الدعائية بالتخلص من حزب المؤتمر الوطني، الذي أثقل كاهله بالفعل تلاعبات البشير على مدار السنين. وبعد تجميد أعمال حزب المؤتمر الوطني، أعد المجلس العسكري الانتقالي قائمة أولية عامة بأصول الحزب. وبحسب التقارير الإعلامية، قُدرت أصول حزب المؤتمر الوطني بمبلغ 31 مليار دولار، وشمل ذلك أسطولاً يضم 5000 سيارة، و3000 شركة معفية من الضرائب ورسوم الدمغة، و1500 حيازة عقارية، ومقر مركزي شُيد بتكلفة 50 مليون دولار – دون حساب النقدية المصادرة والودائع في حسابات حزب المؤتمر الوطني.
وفي 9 مايو، أبلغت السلطات عن إحباط محاولة لتهريب كميات كبيرة من سبائك الذهب إلى خارج ولاية نهر النيل باستخدام مروحية هليوكوبتر. وقامت بالمصادرة قوات الدعم السريع، والتي كانت في البداية تتألف من رجال ميليشيات الجنجويد. وقد تم في البداية دمجهم عام 2013 تحت قيادة جهاز الأمن والاستخبارات الوطني ثم تم لاحقاً دمجهم في الجيش في عام 2015، وقد خضعت في كلتا الحالتين الي خط قيادة مباشر للبشير.
إن الانهيار المفاجئ لنظام البشير كشف أن العديد من كبار المسؤولين السابقين وكبار أفراد عائلاتهم كانوا يكتنزون الأموال النقدية في بيوتهم وحساباتهم البنكية المحلية. ولدى الإطاحة بالبشير من السلطة في 11 أبريل، وجدت السلطات قرابة 6 مليون يورو (6.7 مليون دولار) و351,000 دولار أمريكي و5 ملايين جنيه سوداني (150,000 دولار أمريكي)، جميعها أموال نقدية، في مقر إقامته الرسمي. وفي 20 أبريل، بدأ مكتب المدعي العام تحقيقًا مع الرئيس المخلوع على خلفية اتهامات بغسل الأموال وحيازة كميات كبيرة من العملة الصعبة من دون سند قانوني، وتمويل الإرهاب. كما كان لدى الرئيس حق استخدام 143 مليون جنيه سوداني و315 ريال سعودي احتفظ بها في بنك محلي خارج الميزانية.
غير أن المرء يمكن أن ينخدع لو أنه قبل أن أيًا من هذه الخطوات يعني بزوغ عصر من الشفافية ومكافحة الفساد في السودان قبل أن يتمكن المدنيون الذين أطاحت احتجاجاتهم بالبشير من تولي زمام الأمور بأنفسهم.
“الذهب الذي نتحكم فيه”
في 24 أبريل، أعلن الجنرال محمد حمدان دقلو، الملقب كذلك بـ”حميدتي”، قائد قوات التدخل السريع ونائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي حالياً، خلال مؤتمر صحفي أنه تبرع بمبلغ 1.03 مليار دولار لبنك السوداني المركزي ووزارة المالية والاقتصاد الوطني. وقد جاءت النقود، بحسب ما قال، من “مرتبات جنودنا ومن عمليات التنقيب عن الذهب التي نتولى إدارتها”. وقد كان هذا التلميح والإعلان العام اعترافا واضحاً بأن مرتبات محاربي قوات التدخل السريع المنتشرين في حرب اليمن يتم حفظها في حسابات خارج الميزانية لا تخضع لسيطرة وزارة المالية او البنك المركزي. تقاتل هذه القوات لدعم جهود التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية لمناهضة تمرد الحوثيين ويسدد السعوديون والإماراتيون رواتبهم.
وعلى نفس المنوال، فإن إشارة دقلوا إلى “الذهب الذي نسيطر عليه” مثلت رسالة تذكير صارخة بملكية الجنرال – إلى جانب شقيقه، نائب قاد قوات التدخل السريع، لمجموعة شركات الجنيد. وقد توسعت أعمال العائلة بسرعة في السنوات الأخيرة، من إدارة أنشطة تجارية متواضعة إلى إدارة شركات تابعة في قطاعات النفط والحديد والنقل والإنشاءات والهندسة والإعلام والسياحة. ويبدو أن شركة التنقيب عن الذهب والمعادن التابعة للمجموعة تعمل على تنمية أعمالها، مع منحها تراخيص تعدين جديدة من جانب النظام السابق لمزاولة الأنشطة عبر مختلف أنحاء السودان.
مكافحة سرقة المسؤولين الحكوميين
يبدو أن إصرار المجلس العسكري الانتقالي على الاحتفاظ بسلطة حقيقية أثناء عملية التحول تأتي مدفوعة في جزء كبير منها برغبة القادة في الحفاظ على القوة الاقتصادية الهائلة السابقة التي أولاها النظام لقطاع قوات الأمن والدفاع وكبار القادة الذين وفروا له الحماية على مدار العقود الثلاث الماضية.
يجب على المجلس العسكري الانتقالي تسليم السلطة إلى المدنيين بصفة أساسية لأن هذا ما يريده الشعب السوداني وما ضحوا بأرواحهم من أجله. إن النقل السريع للسلطة إلى المدنيين يمكن أن ينهي بشكل قاطع بعض هياكل الفساد الأكثر ضرراً والتي أعاقت اقتصاد السودان. في حال السماح الحالة الحالية لسرقة المسؤولين الحكوميين وتركهم دون كبح جماحهم وفي حال ترك امر إصلاح قطاع الامن والدفاع في يد الجيش والمؤسسة الأمنية، فسوف يستمر تقويض أفق الاستقرار والنمو الاقتصادي , في البلاد.
يجب أن تعرف السلطات المدنية الانتقالية في السودان أنه لن يكون هناك تعافٍ للاقتصاد الوطني طالما استمر القطاع الأمني في التمتع بالاستقلال التام في إدارة مصالحه التجارية الهائلة. ولقد حظي القطاع بهذا المستوى من السلطة بعيدًا عن رقابة وزارة المالية وديوان المراجع العام المستقل في ظل نظام البشير.
إن عمليات المصادرة الضخمة للأموال النقدية الأجنبية من المنازل الخاصة والمكاتب الغامة وإجهاض محاولة تهريب أحمال من الذهب من خلال طائرة مروحية إلى خارج البلاد، إلى جانب ضعف تنفيذ السودان لقوانينه ذات الصلة بمكافحة غسل الأموال وارتفاع مستوى الفساد الحكومي كلها أمور قد تدفع شبكة إنفاذ أحكام الجرائم المالية في وزارة الخزانة الأمريكية إلى إصدار بيانات تحذيرية استشارية بهدف مكافحة عمليات غسل الأموال و بشأن التنبيه لمخاطر هروب رأس المال من نخب النظام التي تسعى إلى أن توجه إلى خارج السودان عوائد عقود من الفساد. إن كبار المسؤولين السابقين في النظام الذين تورطوا في عمليات فساد كبرى، والعديد منهم قد أشرف أو باشر انتهاكات جماعية لحقوق الإنسان، مثل قتل المحتجين في يونيو، يجب معاقبتهم في ظل السلطات العقابية العالمية لقانون ماغنيتسكي الصادر عن وزارة الخزانة.
يجب جعل مساعدات التنمية الدولية المستقبلية والاستثمارات الخاصة مشروطة بتنفيذ السودان لأفضل المعايير الدولية للشفافية والمساءلة في إدارة الأموال العامة. وفي ظل الظروف الحالية، فإن الكيانات والأنشطة الاقتصادية المهيمنة بقطاع الدفاع والأمن سوف تفشل في اجتياز أي اختبار وفق هذه المعايير الدولية ينبغي عدم السماح للقطاع بمواصلة حرمان الشعب السودان من ثروته الوطنية بتركيزها في أيدي من يسيطرون على هذا الاقتصاد المخفي.
دكتور سلمان بلدو، كبير الاستشاريين السياسيين في مشروع كفاية
Click here to view the op-ed on Medium.